لمحة تاريخية

إن مدينة تونس - الحي كانت قديما قرية بربرية صغيرة (Oppidum Tunicense) ممتدة فوق الربوة المنحدرة في يسر حتى ضفاف البحيرة المعروفة - تمثل واحدا من تلك المواقع التي حبتها الجغرافيا واصطفاها التّاريخ. و لم يكن هنالك في بادئ الأمر ما قد يهيّئها لكي تصبح عاصمة لإفريقيّة التي كان يطلق عليها اسم أفريكا في العصور القديمة. وكان جوارها لقرطاج العظيمة الشّامخة في عهديها البونيقي ثمّ الرّوماني يجعل الاهتمام لا ينصرف إليها إلاّ في القليل النّادر طوال كامل العهود القديمة, باستثناء حالات ثورة أهاليها –ومعظمهم من أصل بربري – على مستعمريهم البونيقيين أو الرّومان. و قد بقيت هذه المدينة المشاغبة على ما عرفت به من ملازمة الخروج و التّمرّد على الحكّام حتّى بعد الفتح العربي, حين تحوّلت منذ أوائل القرن الثّامن إلى قلعة حصينة تتجمّع فيها جيوش المسلمين و ينطلق منها الفاتحون نحو كبريات جزر البحر المتوسّط. وقد انحصر دور تونس الممتدة بين البحيرة و السّبخاء, في أنّها الأرض الخلفيّة لمدينة قرطاج, وكانت تراقب طوال العهود القديمة معبرا لمرور الأراضي الرّابطة بين العاصمة و بقيّة أنحاء البلاد. أمّا المسلك الآخر عبر البحيرة عن طريق رادس فقد كان هو أيضا يتيح الاتصال بقرطاج لكن بواسطة العوامات الطّافية على سطح الماء (per-rates).

تونس ترقى إلى خلافة قرطاج

هذا الموقع الحريز الذّي لم يكن لصالحها في العهود القديمة، أعطاها بعد الفتح العربي مكانة دفاعيّة وإستراتيجية من الطّراز الأوّل. فقد ورثت تونس في الواقع مزايا مدينة قرطاج مع تحاشي العيوب و المساوي المتّصلة بموقعها , فلم تبعد كثيرا عن البحر ولا كانت شديدة التّعرّض لمخاطره فقد ورثت عن قرطاج بيئتها الجغرافيّة والاقتصادية الملائمة مما وفّر لها الثّروات الزّراعيّة والأنشطة الصّناعيّة و مسالك الاتصال وبشيء من النّزوع إلى الصّبغة البحريّة , دعّمه لديها حسّان ابن النّعمان القائد العربي الشّهير الّذي أطاح بقرطاج البيزنطيّة وقضى على المقاومة البربريّة التّي جسّمتها الكاهنة . وقد أٌقام على الأرض المهملة الفاصلة بين المدينة والبحيرة دارا للصّناعة جلب إليها من مصر ألف رجل من الأقباط المختصّين في بناء السّفن. وفي نفس الوقت أحدث بوسط المدينة مسجدا جامعا – عرف بمسجد جامع الزّيتونة –أخذ مكانه داخل كنيسة قديمة أو على أنقاضها. وقد حدد كلّ من دار الصّناعة وجامع الزّيتونة مصير مدينة تونس مكرسين لمدة قرون نزعتها المزدوجة: البحريّة والدّينيّة. لكنّها ظلّت مع ذلك مدينة ذات أهميّة ثانويّة بالقياس إلى مدينة القيروان عاصمة الأغالبة ( القرن التّاسع ) أو إلى مدينة المهديّة الّتي أسسها الفاطميون ثمّ أصبحت, بعد رحيلهم إلى مصر (في سنة 970م) قاعدة لدولة بني زيري البرابرة. وينبغي أن ننتظر أواسط القرن الحادي عشر لنرى مدينة تونس تحرز أوّلا على صفة القاعدة لأمارة محليّة, وهي إمارة بني خرسان (من أواسط القرن الحادي عشر إلى أواسط القرن الثّاني عشر) ثمّ تتحوّل إلى عاصمة لولاية إفريقيّة تابعة لخلفاء الدولة الموحّديّة القائمة بمرّاكش (من 1160 إلى 1229م), قبل أن تصبح أخيرا عاصمة لملوك دولة بني حفص (1229إلى 1574م). وقد كانت مدينة تونس تراقب بالاشتراك مع صقلّيّة التي لا يفصلها عنها سوى ممر لا يتجاوز عرضه 140 كيلو مترا, حركة العبور بين المتوسّط الغربي والمتوسّط الشّرقي, وهي ميزة كبرى في مجال التّجارة الدوليّة. وقد كان للجمهوريات الإيطالية المزدهرة في ذلك العصر (مثل بيزة وجنوه وفيرنزة والبندقيّة….) , ولمدينة مرسيليا وبعض المدن التّجاريّة الإسبانيّة مثل برشلونة , مبادلات مكثفة مع تونس ولا سيّما في موادّ البذخ الفخمة المخصصة لإرضاء رغبات أهل البلاط وأعيان البلاد من قوّاد عسكريين وأكابر الفلّاحين والتّجّار . وقد امتدّت حول الجامع الأعظم أسواق عديدة تباع فيها وتشترى السلع النّفيسة, من منسوجات حريريّة وعطور وكتب ومصنوعات جلديّة, في حين كانت البضائع الأكثر ابتذالا أو الملوّثة أو المتعلّقة بالرّيف تصنع وتباع خارج أبواب المدينة في نطاق ما شرع النّاس بعد في تسميته بالأرباض (مثل "الدّباغين " و " الحلفاوين" و " التبانين" و "رحبة الغنم " و "المركاض " الخاص بالخيل وغير ذلك). وهذا الرّخاء الذي نستشفّه من خلال كتابات الرّحالة العرب أو الأوروبيين أمثال عبد الباسط بن خليل المصري و العبدري الأندلسي و أدرن أصيل مدينة «بروج", يذكرنا لا محالة بالقرن العاشر حيث كان ابن حوقل قد سبق إلى التأكيد على وفرة السّلع و المنتجات ويسر عيش السّكان, بل وحتّى بالقرن الحادي عشر حيث كان البكري لا يملك إعجابه سواء فيما يتعلّق بالأسواق الغنيّة العامرة بالخيرات أو بما كان يحيط بالمدينة من أجنة ثمار وبساتين خضر. وبالرغم من زوبعة القرن السادس عشر وما أعتبها من إعادة بناء فقد حافظت تونس فيما يبدو في القرن السابع عشر على نظام المدينة القديم المتمين بموقع الجامع والأسواق في المحور من المدينة وبغلبة الطرق الكبرى المتجهة إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب والمتقاطعة في مستوى الأسواق ووجود أسوار تحمي المدينة العتيقة المركزية وأخرى تحمي الأرباض إضافة إلى تمييز وظيفي بين الفضاء والعالم الخاص وبالتدرج في ترتيب المسالك

عاصمة في عهد الحفصيين

انت تونس تعد مدينة كبيرة في عهد الحفصيين (وقد بلغ عدد سكّانها في القرن الخامس عشر ما يناهز مائة ألف شخص), وكان العيش يطيب فيها, وتحميها أسوارها و قلعتها المعروفة بالقصبة حيث كان يقيم السّلطان إذا لم يكن بأحد منتزهاته الموجودة خارج المدينة مثل حدائق راس الطّابية أو جنان أبي فهر. ومن أعلى مراقي جامعها الأعظم الإثنتي عشر –أعني جامع الزّيتونة- فإنّه يمكن للمرء أن يرى دار الصّناعة الّتي أنشأها حسّان وكذلك الميناء والبحيرة التي لم تكن ضفافها تبعد عن المدينة بالقدر الذي نجده اليوم, وبالتّحديد عن بابها الشّرقي, وهو باب البحر. وكان باب الجزيرة جنوبا, وباب سويقة شمالا, وباب قرطا جنة بالشمال الشّرقي, وباب الخضراء غربا تشكل المنافذ الأربعة الأخرى المعروفة منذ القرن الحادي عشر أو الثاني عشر بل وحتى قبل ذلك على أغلب الظن. وقد تولّى التدريس بجامع الزيتونة منذ القرن التاسع عدد من أجلّة العلماء منهم علي بن زياد, ونشروا المذهب المالكي بربوع إفريقيّة قبل أن يرفع رايته الإمام سحنون. وقد كان من نتائج الحركة المعماريّة التي شهدتها تونس منذ القرن الثالث عشر أنّها جعلت من مدينة بني خرسان الصغيرة عاصمة مساوية للمدن الكبرى في ذلك العهد, لائقة خصوصا بدولة بني حفص التي جعلها السلطان أبو عبد المستنصر عاصمة خلافة في منتصف القرن الثالث عشر.

مركز ديني و فكري ومدينة يعمّها الرّخاء والازدهار

كانت مدينة تونس العاصمة السياسيّة والاقتصادية لمملكة الحفصيين الكبرى. (وكانت إفريقيّة تضم بالإضافة إلى البلاد التّونسيّة الحاليّة إقليم طرابلس شرقا وإقليم بجاية وقسنطينة غربا ). كما كانت مدينة تونس أيضا مركزا دينيا وثقافيا كبيرا. وقد انضاف فيها منذ القرن الثالث عشر إلى جامع الزّيتونة خمسة جوامع خطبة جديدة كبرى (وهي جامع القصبة غربا, وجامع أبي محمد شمالا, وجامع باب الجزيرة البراني جنوبا, وجامع التوفيق في الشّمال الغربي وجامع باب البحر شرقا ). وأنشئت المدارس (وهي معاهد معدّة في آن واحد لإسكان الطّلبة و تعليمهم ), وأولى هذه المدارس بشمال إفريقيا هي المدرسة الشماعيّة التي بناها مؤسّس الدولة الحفصيّة في نفس الوقت الذي بنى فيه جامع القصبة (أي حوالي سنة 1230م). وأقيمت "الزوايا" (وهي مقامات أضرحة الأولياء الصّالحين ومواطن خشوع وتقوى للجماهير), والكتاتيب (وهي مدارس قرآنيّة) والأسبلة (وهي مساقي لعابري السبيل طلبا للثواب), والحمامات وغيرها من المنشآت المقامة لوجه الله أو المصلحة العامة. ..وهذه المعالم كلها تشهد بالنّهضة الحضاريّة الكبرى وبالتجديد المستمر في الطّابع المعماري. أما التيار الغربي الذي قوي واشتدّ في القرن الثالث عشر بسبب وفود الأندلسيين بأعداد كثيفة بعد أن تمّ طردهم من إسبانيا, فقد أخذ يزاحمه منذ القرن الخامس عشر تيار القادمين من مصر. وما زلنا نقف اليوم بإعجاب كبير أمام المعالم ذات الطّابع الموحّدي أو الأندلسي المميز مثل منارة جامع القصبة وقبته (القرن الثالث عشر ), زاوية سيدي قاسم الزليجي (القرن الخامس عشر), أو المعالم التي تحمل أثرا شرقيّا واضحا (مثل ميضأة السلطان ) (القرن الخامس عشر), أو طابعا تأليفيا يمزج بين الاتجاهات مثل المدرسة الشماعية (القرن الثالث عشر ) أو المدرسة المنتصريّة ( القرن الخامس عشر ) أو جامع الهواء (القرن الثالث عشر ) الذي أمرت ببنائه الأميرة عطف زوجة أبي زكرياء مؤسس الدولة الحفصيّة.

Municipality of Manouba
Subscription